(مقال من إعداد الأستاذة الكاتبة حياة دخيسي)
عاملان أساسيان كرّسا مفهوم الجسد داخل البنية الثقافية
العربية,و جعلاه محركا للتفكير,للتأويل,للحلم,للشك,للفعل..
أولهما سيادة العمل اليدوي و البدني في الأجيال السابقة خاصة
على حساب العمل الذهني,كالأشغال الفلاحية و التجارية
و لأن شخصية الفرد تنبت بين حركاته و أشيائه و تنشئته و طريقة
انفتاحه على العالم الخارجي فإنه يعطي ما أخذه و تشبع به
و بالتالي تصبح أنماط التبادل الفكري و السلوكي عنده تتأسس
في جزء كبير منها على معالم الجسد و ايحاءاته,و تكتسي ثقافة
اللباس و الجمال و الوظيفة في قيمتها المادية علامات مهمة في
التعارف بين الناس و الحكم على بعضهم البعض.
أما العامل الثاني فيتمثل في الكبت الناتج عن قمع كل حديث
أو معرفة عن الجسد بما فيها قمع الجانب الغريزي و العدواني في
الإنسان في مرحلة الطفولة خاصة,و هذا الكبت اللاشعوري يجعل
كل توجه نقدي إصلاحي تحليلي يتمركز حول الجسد,حتى نجد
الأباء مثلا يتدمرون من طريقة لباس ابنهم أو ابنتهم و لا يكلفون
أنفسهم عناء معرفة من هو ابنهم أولا,بل يربطون هوية الشخص
بمظهره الخارجي
و حتى لو كان التعبير الخارجي يحيل على مقاصد نفسية داخلية
فإن أي نقد أو إشادة أو معرفة يجب أن تنطلق من داخل ذات الفرد
ككائن واع و مفكر و عاقل..
إن تغليب الجانب الجسدي على الجانب الفكري يخل بتوازن
الإنسان الذي هو عبارة عن مركب متجانس بلبنة أساسية هي القلب
الذي يعقل,و يسقط الأفراد في هوة عميقة بين سلوكاتهم الخارجية
أو الظاهرة و بين مخيلاتهم و رغباتهم الدفينة أو أفعالهم الخفية
حيث يمكن أن يتناقضا في الحالة التي يظهر فيها الفرد للمجتمع
بالصورة التي يريدها الناس و يظهر لنفسه بالصورة التي يميل إليها هو.
كما أن تغليب الجسد على الفكر يجعل أي إصلاح و تغيير يبوء
بالفشل,لأننا نسعى لواجهة متجملة و لا نبالي بالمضمون الفاتر
و هذا التناقض لابد أن يخلق أزمة بل هو سبب التخلف.
لقد آن الأوان أن ندخل في ثقافاتنا مفاهيم = تجاعيد الفكر
و حمى الأخلاق و إعاقة القراءة و العجز الذهني و الفتور الإنساني
و الفراغ الروحي..ففقط إذا قوّمنا دواخلنا يصبح أي تقويم آخر ممكنا
لذلك فنحن بحاجة للجهاد العقلي و التفتح الذهني و التنوير الفكري
و الاغتناء الذاتي و الأخلاقي..أكثر منه إلى تلك التمثلات التي
نصبت الجسد ملكا و شددت حوله الخناق
وحده العقل الناضج السليم يمكن أن يمسك زمام الأمور و يديرها
و أي تجاوز له يسقطنا في العدمية.