أب... والآباء قليل
«جاك هاربوغ» لاعب ثم مدرب سابق لكرة القدم الأميركية. وهو اليوم أب لـ «جون» و «جيم» اللذين شقّا طريقهما على نهج أبيهما في التدريب. ومع هذا لم يصدف أن تقابل الأخوان في أية مباراة لفريق أحدهما ضد الآخر. إلى أن جمعهما القدر بتاريخ الثالث من الشهر الجاري، إذ أقيمت المباراة بين فريق سان فرانسيسكو الـ49 بقيادة المدرب جون هاربوغ، وفريق بولتيمور ريفِنز بقيادة المدرب جيم هاربوغ. فتسابقت القنوات الفضائية لسؤال الأب عن شعوره. فجاء جوابه مفاجئاً! إذ أصرّ على عدم حضور المباراة مهما كانت حماسية، وتفسيره: «أخشى أن تلتقط عدسة الكاميرا شيئاً من تعابير وجهي، فأعبس في لقطة، وتنبسط أساريري في لقطة، فيظن جون أو جيم عند إعادة المباراة أنني كنت مع أحدهما ضد الآخر». فماذا عن حفلة الابتهاج بالفوز؟ كان سؤال المذيعة. ليجيب الأب: «من الصعب حضوري الحفلة مراعاة لمشاعر ابني الذي لم يحظَ فريقه بالفوز».
إجابات طبيعية لأب طبيعي. وليس شرطاً أن يكون أجنبياً كي يصدر عنه مثل هذا الإحساس العالي بأبنائه. فالأب هو الأب والأم هي الأم، أينما وجدا في الزمان والمكان. ولكن مع تضخّم الحكايات المتداولة عن تخلي الأبوين عن واجباتهما وتضحياتهما تجاه أبنائهما، صارت مثل تلك التصريحات وكأنها غريبة مستغربة. أو كأنها آتية من زمن جميل مضى. وهي بالفعل بعيدة، فالأب جاك من مواليد عام 1939. فهل يا ترى لو تقدم العمر بأحد ابنيه ووجد نفسه في موقف أبيه... هل سيكون على درجة أبيه نفسها في أبوته؟ أميل إلى الاعتقاد أنه سيقوم بما سنّه أبوه. لأن التربية في المقام الأول هي النموذج الحي أمام الأبناء.
أحياناً يعيش الأب حياته كما تُملي عليه رغباته. فلا يصل رحمه كما ينبغي. ولا يعامل أهل بيته بالكرم والحسنى. ولا يراعي أحاسيس أبنائه وهو يعقد المقارنات في ما بينهم. ولا يبذل مجهوداً تجاه معارفه وأصدقائه. وحتى أنك تجده لا يلتزم بأداء الشعائر من صلاة وصوم. كل هذا يعيشه أمام أبنائه وناظريهم، ثم وبكل وقاحة يتبجح بالشكوى من أبنائه إذا شبّوا وكبروا. فيصفهم بالعقوق تارة، وبالفشل تارة أخرى. ولا يسأل نفسه عن من كان السبب في تشكيل تلك الشخصيات الباهتة المتهالكة. أمّا إن ظهر من الأبناء من عكس النموذج الذي عاشه وكرهه في أبيه! فصمم على النجاح وكتب قصة صعوده من رحم معاناته، هذا الابن الذي حفر في صخر الأيام، سيتخذه الأب قدوة يتباهى بها أمام إخوانه والناس. ولو سألوا ابنه عن موقفه، لكان الجواب: «لولا نفوري من صورة أبي المتخاذل لما عزمت أن أكون على خلافه». وهذه هي حقيقة الأب في نظر أبنائه.
الحياة في مجموعها عبارة عن تفاصيل صغيرة ومتشعِّبة تجمّعت فصارت تفاصيل كبيرة ومؤثرة. فمن مجموع الصغير يتكوّن الكبير. وحين يستمرئ الأبوان الاستهانة بالأمور البسيطة التي تدل على الإنسانية وعلى المشاركة الوجدانية مع أبنائهما، فلن ينضج الأبناء أصحاء النفس مهما حاولوا تعويض ما فاتهم لاحقاً. صحيح قد ينسى الأب تفصيلة هنا، وتتهاون الأم في تفصيلة هناك، وهذا طبيعي في زخم الظروف والضغوطات، ولكنهما بصفة عامة أبوان لا ينسيان ولا يتهاونان وهو ما يُحدث الفرق، ويكوِّن الرصيد الذي يسحب منه الأبناء عند البحث عن مبرر لأبويهم. إنما عندما يكون الطبع الأصيل للأب والأم الإيثار بأنفسهما على حساب أبنائهما، وبمنطق أنا أبوه وأنا أمه مهما يكن، هنا تكون الحسابات المغلوطة والحمقاء. التي غالباً ما يدفع ثمنها الأبوان في نبذ الأبناء لهما، أو في أحسن الأحوال في معاملة البرود واللامبالاة التي تغلِّف علاقتهما بأبنائهما. إلا من رحمه ربي فأحسن إلى أبويه على رغم إساءتهما إليه. وهي عند الله كبيرة.
كما يلزم الطفل شرب الحليب لتقوى عظامه، تلزمه الإشادة به وتشجيعه وتفهّم أخطائه كي تقوى شخصيته. فإن كنا لا نحب أبناءنا إلا لعبقريتهم وطلّتهم البهية، فهل يعني هذا ألا يحبنا أبناؤنا إلا لمناصبنا ووسامتنا مثلاً؟! تقول الكاتبة الأميركية مارلين فرينش: «أن تهنّدِس تربية أبنائك أهم من تصميمك للسلاح النووي».