بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّـلَامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبـَرَكَـاتُـهُ
الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ؛ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَمُعَافَاتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَمُجَازَاتِهِ،
يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛
هَدَى قُلُوبَ أُنَاسٍ فَشَرَوُا الآخِرَةِ بِالدُّنْيَا، وَضَلَّ عَنِ هِدَايَتِهِ أَقْوَامٌ فَخَلَدُوا إِلَى الفَانِيَةِ وَضَيَّعُوا البَاقِيَةَ؛
[مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] {الكهف:17}،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى الهُدَى فَاتَّبَعَهُ ثُلَّةٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَدَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،
وَانْخَلَعُوا مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَعَادَوا عَشَائِرَهُمْ وَقَبَائِلَهُمْ؛ فَسَخَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ حَمَلَةً لِدِينِهِ،
صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ،
وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ،
[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الشعراء:88-89}.
موضوع تحت عنوان :
"حـقـيـقـة الـمـرأة فـي الإسـلام (2) "
لقد حارب الإسلامُ أمثالَ هذه الظُّنونِ السَّقيمة، والأفكارِ غيرِ القويمة، التي اعتنَقَها البعضُ عن انحطاط المرأة، وجاءت أحاديثُ النَّبِيِّ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لتضعَ حدًّا لمفهوم دُونيَّة المرأة قبل الإسلام، تلك الدونيَّة التي عرفتْها أغلبُ الشُّعوب في طول الأرض وعرضِها؛ كما ذكر (ول ديورانت) في مواضعَ من "قصة الحضارة"، بل رسَّخَتْ تعاليمُ الرسول محمَّد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - تكريمَ المرأة؛ فهي أمٌّ، أو أختٌ، أو بنت، أو زوجة، وكلُّهنَّ من الكريمات العزيزات على قلب المسلم.
فها هو النبيُّ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُسألُ: مَن أحقُّ الناس بحُسْن صُحْبَتي؟ فيُجيبُ السائلَ: ((أمُّك))، ثُمَّ يُكرِّر السائلُ سؤالَهُ ثانيةً، فيُجيبُه: ((أمُّك))، ثم يسألُه ثالثةً، فيقول: ((أمُّك))، ثم يسأله رابعةً، فيقول: ((أبوك))؛ "صحيح البخاري".
ويُوجِّه في كثيرٍ من الحنان صحابيًّا آخرَ بإكرامِ أمِّه، فيقول له: ((الزَمْها؛ فإنَّ الجَنَّة تحتَ رجلَيْها))؛ "سنن النسائي"، ومعناه: أنَّ التواضعَ للأمهات وخدمتَهنَّ، وإكرامَهنَّ واحترامَهنَّ وطاعتَهنَّ - سببٌ لدخول الجنة.
وبما أنَّ العربَ قبل الإسلام كانوا قد عرفوا جريمةً شنيعةً، هي وَأْدُ البناتِ، الأمر الذي نعاهُ القرآنُ الكريم، فقال يذمُّهم:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58، 59].
أجَلْ، إنَّ حكْمَهم في غاية السوء؛ لأنَّ البنتَ هبةٌ من الله القائل في القرآن:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49].
لأجْلِ ذلك علَّم الرسولُ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - المؤمنين زيادةَ إكرام البنات، وبَيَّن أنَّ رعايتَهنَّ عملٌ صالحٌ يحبُّه اللهُ ويجزي عليه، فقال: ((مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤوِيهنَّ ويَكفِيهنَّ ويَرحمهنَّ، فقد وَجَبَتْ له الجنةُ ألْبَتَّة))، فقال له رجل: واثنتين يا رسولَ الله؟ قال: ((واثنتين))؛ "مسند أحمد".
وأما الزوجة - الأنثى الحبيبة، شريكةُ الحياة، ورفيقةُ العمر - فقد شَرَعَ الإسلامُ لها تكريمًا خاصًّا، ومعاملةً بالحسنى متميِّزة، ولا تجد مَن رَفَعَ مِن شأن الزوجة كما رفَعَهُ الإسلام؛ لأنَّ الإسلام رحمةُ السماء، فلقد أمر اللهُ - تعالى - بحُسْن عِشرَة النساء، فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال في آية أخرى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وقد قال النبيُّ محمدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خِيارُكم خيارُكم لنسائهم))؛ "سنن ابن ماجه"، وقال: ((خيرُكم خيرُكم لأهله - أي: لزوجته - وأنا خيرُكم لأهلي))؛ "سنن الترمذي" ؛ أي: إنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم - قدوةُ المؤمنين في حُسن التعامل مع الزوجة.
وقد أوجَبَ الإسلامُ أن تعيشَ المرأةُ مكرمةً في بيتها، وأراحَها مِن أن تُنفقَ على نفسِها، حتى لو كانت غنيةً تملكُ المالَ الكثير؛ بل أوجب على الرجل أن يُنفقَ عليها كما يُنفقُ على نفسه، ولا يجوز له أن يأخذَ شيئًا من مالها أبدًا، إلا برضاها التامِّ، وموافقتِها التي لا إجبارَ فيها.
ولقد أباح الإسلامُ للمرأة العملَ من أجْلِ أن تنتفعَ بالمال المكتسب، وأن تنفعَ مجتمَعها، ولكنَّه لم يُجزْ لها أن تعملَ أيَّ عملٍ؛ لأنها مخلوقٌ رقيقٌ حسَّاس، يُؤذيه العملُ المرهِقُ الشاقُّ، أو الذي يتطلَّب شيئًا من التعرُّض للأذى النفسيِّ أو البدني.
فالرجلُ - بحكم طبيعتِه الجسديَّة - يستطيع ممارسةَ أغلب الأعمال التي تَعجِزُ عنها النساء، فإذا قامت بها المرأة، فإنَّ ثمنَ قيامها بها هو تخلِّيها عن أُنُوثتِها ورقَّتِها، وتحمُّلُها لِما لا يناسب نفسيَّتَها وتكوينَها البدني.
ولقد ظلمتْ بعضُ المجتمعات الماديَّة النساءَ؛ حين ألجأت المرأةَ إلى أن تعملَ في أعمال البناء، أو أعمال النظافة، أو أعمال الزراعة والصناعة الثقيلة.
بينما أوجب الإسلامُ على الأَبِ أن يُنفقَ على ابنته، وعلى الزَّوج أن يُنفقَ على زوجته، بينما تتفرغ الزوجة الأم - ولو كانت غنية - لمهمَّتها العُظمَى في الحياة، وهي مهمة تربية الأجيال القادمة إلى الحياة.
ويُخطئُ مَن يظنُّ أنَّ التربية هي مجرد الخدمة والتنظيف والرعاية البدنية؛ بل إنها أسمى من ذلك بكثير.
إنَّ الأمَّ - بحكم عاطفتِها وحنانها - أقدرُ الناس على تنشئة الطفل تنشئةً اجتماعيَّةً ونفسيَّةً وأخلاقيةً سليمة، وهي أحرص الناس على رعايته والعناية بشؤونه منذ ولادته إلى أن يكبر؛ لذلك قال الشاعر العربيُّ حافظ إبراهيم:
الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الأَعْرَاقِ
وحُضْنُ الأمِّ هو الملاذُ الآمن، والمهْدُ الوثير، الذي يتمنى الأطفال - بل الكبار - أن يضعوا رؤوسَهم عليه؛ ليشعروا بالأمان والحنان والعطف.
فإذا قاس بعضُ الناس قيمةَ الفرد بما يُنتجُه وبما يكسِبُه من المال، فما هي قيمة (إنتاج) الإنسان السويِّ الخَلوق المهذَّب؟ تلك المهمة الرائعة التي كُلِّفتْ بها الأم.
وإذا أجاز البعضُ أن تعملَ بعضُ النساء خادماتٍ في بيوت غيرِهنَّ؛ لأجلِ مقدار ضئيل من المال، فما هي القيمةُ الحقيقيَّة لعناية المرأة بأسرتها، ورعايتها لشؤون بيتها الخاصِّ، أو مملكتها التي تتربَّع فيها على عرش الملكة؟
إنَّ كلَّ مسلمٍ يُمارس سلوكياتٍ وتقاليدَ تتناقضُ مع ما رسَّخه القرآن، ورسَمَتْه سنةُ النبيِّ محمد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - من تكريم الإنسان، رجلاً كان أو امرأةً - إنما يقع في مخالفةِ تعاليم دينه، ويعصي أوامرَ ربِّه.
وللأسف، فإنَّ بعضَ المجتمعاتِ الإسلاميَّة، التي كرَّس الاستعمارُ فيها الفقرَ والجهل والمرضَ - ابتعدت بضغوط واقعها السيِّئ عن الاستنارة بأنوار القرآن وتوجيهات النبيِّ محمد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وهي بحاجة ماسَّة إلى إعادة اتِّصالها الفعَّال مع القرآن والنبيِّ الحكيم محمدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فالأوَّلُ: كلامُ الله، الذي فيه رحمتُه وعلمُه وعدلُه، والثاني: رسولُه، الذي أوحَى إليه اللهُ بالهدى، وخير البشرية، وسعادتها في الدنيا والآخرة.