لرحيق المختوم سلسلة السيرة النبوية للمباركفوري!؟ غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام !!
لرحيق المختوم سلسلة السيرة النبوية للمباركفوري!؟ غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام !!
[quote="mArwaNe02"]
[center][size=16] [size=16]تمضي الأيـام .. لكن الذكرى تبقــى الماضــي مضـى .. و المضارع يمضي [/size]
[size=16]لذلك فلنطـوي صفحـة الماضـي و لنبــدأ بصفحات بيضــاء جديــدة [/size]
[size=16]و لنــجعل من من الذكريات الــوانا في كتابنا و لنــملئ صــفاحتنا البيــضاء بســطور ذهبية [/size]
[size=16]تعــكس جمالها على منتــدانا هذا .. [/size]
[size=16]الحمـد لله وحده نحمده و نشكره و نستعـينه و نستـغفره و نعـود بالله[/size]
[size=16] مـن شـرور أنـفسنا و من سيـئات أعمالنا .. [/size]
[size=16]من يـهده الله فلا مظل لـه و مـن يظـلل فلن تـجد له ولياً مرشدا ..[/size]
[size=16]و أشـهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له و أن محــمداً عبده و رسـوله صــلى الله عليه و[/size]
[size=16]سلم و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسـان إلى يوم الدين ..[/size]
[size=16] [/size]
[size=16]ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الـخـبــيـر .. [/size]
[size=16]ربـنـا لا فــهم لـنا إلا ما فهــمتنا إنــك أنـت الجــواد الـكـريـم . [/size]
[size=25]مَرحَبَاً بِكُم زوَار و أعضَاء المُنتدى الكِرام، فِي بَيتِ الإهدَاء!!؟ [/size]
[size=25]أُقَدِّم لكم أيُّهَا الأحِبّة هَديَّة اليوم،هِي عِبَارَةٌ عَن:
[/size]
[size=25][size=25]سلسلَة [size=25]كريمة بِعُنوان سلسلة السيرة النبوية [/size]
[/size][/size]
[size=25][size=25][size=25][size=29]الرحيق المختوم
[/size][/size][/size][/size]
[size=25][size=25][size=25]مأثورة و متواثرة عن نبينا محمد نسأل الله تعالى أن ينفعَنا بِها!؟ [/size][/size][/size]
[size=25][size=25][size=25]السيرة النبوية
اعتمادا على مصنف (الرحيق المختوم) لصفي الرحمن المباركفوري
والذي حاز على جائزة رابطة العالم الإسلامي[/size][/size][/size]
[size=25][size=25][size=25][size=21]الحلقة السَّابِعَة عَشَرة!؟
[/size][/size][/size][/size]
[size=25][size=25][size=25][size=21]كلمة المؤلف [/size][/size][/size][/size]
[size=25][size=25][size=25][size=12][size=16]الحمد
لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، فجعله شاهدًا
ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعل فيه أسوة
حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا. الله م صل وسلم
وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفجّر لهم
ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا.
وبعـد:
فإن من دواعي الغبطة
والسرور أن رابطة العالم الإسلامي أعلنت عقب مؤتمر السيرة النبوية الذي
عقد في باكستان في شهر ربيع الأول من سنة 1396هـ عن تنظيم مسابقة علمية
عالمية؛ لتقديم أحسن بحث في موضوع السيرة النبوية ـ على صاحبها ألف ألف
صلاة وسلام وتحية ـ وذلك تنشيطًا للكاتبين، وتنسيقا لجهودهم الفكرية.
وإني أري أن هذا العمل له قيمة كبيرة ربما لا يحيط بوصفه البيان. فإن
السيرة النبوية والأسوة المحمدية ـ على صاحبها ما يستحق من الصلاة والسلام
ـ إذا لاحظناها بعين الدقة والاعتبار هي المنبع الوحيد الذي تتفجر منه
ينابيع حياة العالم الإسلامي وسعادة المجتمع البشري.
وإن من سعادتي
وحسن حظي أن أقدم بحثًا أسهم به في تلك المسابقة المباركة، ولكن أين أنا
حتى ألقي ضوءًا على حياة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
وإنما أنا رجل يري لنفسه كل السعادة والفلاح أن يقتبس من نوره، حتى لا
يتهالك في دياجير الظلمات، بل يحيا وهو من أمته، ويموت وهو من أمته، ويغفر
الله له ذنوبه بشفاعته.
ومن منهجي في هذا الكتاب ـ عدا ما جاء في
إعلان الرابطة ـ أني قررت سلوك سبيل الاعتدال، متجنبًا التطويل الممل
والإيجاز المخل، وقد وجدت المصادر تختلف فيما بينها حول كثير مما يتعلق
بالأحداث اختلافًا لا يحتمل الجمع والتوفيق، فاخترت سبيل الترجيح، وأثبت
في الكتاب ما ترجح لدي بعد التدقيق في الدراسة والنقد، إلا أني طويت ذكر
الدلائل والوجوه؛ لأن ذلك يفضي إلى طول غير مطلوب.
أما بالنسبة
لقبول الروايات وردها فقد استفدت في ذلك مما كتبه الأئمة المتقنون،
واعتمدت عليهم فيما حكموا به من الصحة والحسن والضعف؛ إذ لم أجد وقتًا
يكفي للخوض في هذا المجال.
وقد أشرت في بعض المواضع إلى بعض
الدلائل ووجوه الترجيح، وذلك حينما خِفْتُ الاستغراب ممن يقرأ الكتاب، أو
رأيت شبه الاتفاق فيما بين الأولين والآخرين على خلاف ما هو الصواب.
والله ولي التوفيق.
الله م قدر لي الخير في الدنيا والآخرة، إنك أنت الغفور الودود، ذو العرش المجيد.
صفي الرحمن المباركفوري بنارس ـ الهند.[/size][/size][/size][/size][/size]
[/size]
غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
الجُزءُ الأوَّل!؟
[color=#000066][font=verdana][b][font=Traditional Arabic][size=21][color=#333333]
سبب الغزوة
سبق
في ذكر غرزة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في
ذهابها من مكة إلى الشام، فلما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما
باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير،
فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر.
و
كانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها: ألف بعير موقرة
بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي. ولم يكن معها من الحرب إلا نحو
أربعين رجلا.
إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة
اقتصادية قاصمة، تتألم لها قلوبهم على مر العصور، لذلك أعلن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قائلاً: (
هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها).
و
لم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن
يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة - بدل العير- هذا الاصطدام
العنيف في بدر؛ ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا
والغزوات الماضية؛ ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغروة.
مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات
و
استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً
ـ 313، أو 314، أو 317 رجلاً ـ 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس
و 170 من الخرزج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا
أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان: فرس للزبير بن العوام،
وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان
والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن
أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً واحد.
واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.
ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.
وقسم جيشه إلى كتيبتين:
1- كتيبة المهاجرين: و أعطى رايتها علي بن أبي طالب، ويقال لها: العقاب.
2- وكتبية الأنصار: و أعطى رايتها سعد بن معاذ. ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ.
و
جعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو-
وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بن
أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى
للجيش.
و سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير
المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة،
حتى بلغ بئر الروحاء، فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار، وانحرف
ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك في ناحية منه حتى جزع ودياً يقال
له: رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه
حتى قرب من الصفراء، ومن هنالك بعث بسبس بن عمرو الجني وعدي بن أبي
الزغباء الجهي إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.
النذير في مكة
و
أما خبر العير فإن أبا سفيان - وهو المسئول عنها - كان على غاية من الحيطة
والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار
ويسأل من لقى من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً
صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو
سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم؛
ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى
مكة، فخرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع أنفه وحول رحله، وشقق
قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان
قد عرض لها لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث...
الغوث.
أهل مكة يتجهزون للغزو
فتحفز
الناس سراعًا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟
كلا والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه
رجلًا، وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض
عنه رجلًا كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف
عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدى فلم يخرج منهم أحد.
قوام الجيش المكي
و
كان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة
فرس وستمائة دِرْع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام
أبا جهل ابن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا
ينحرون يومًا تسعًا ويومًا عشرًا من الإبل.
مشكلة قبائل بني بكر
و
لما أجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من
العداوة والحرب، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف، فيكونوا بين
نارين، فكاد ذلك يثنيهم، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سُرَاقة بن
مالك بن جُعْشُم المدلجى ـ سيد بني كنانة ـ فقال لهم: أنا لكم جار من أن
تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه.
جيش مكة يتحرك
و
حينئذ خرجوا من ديارهم، كما قال الله: {بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال:47]، وأقبلوا ـ كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بحدهم وحديدهم يحادون الله و يحادون رسوله
{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [ القلم:25]، وعلى حمية
وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لجرأة هؤلاء على
قوافلهم.
تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر، وسلكوا
في طريقهم وادى عُسْفَان، ثم قُدَيْدًا، ثم الجُحْفَة، وهناك تلقوا رسالة
جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم
ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا.
العير تفلت
و
كان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسى، ولكنه لم يزل
حذرًا متيقظًا، وضاعف حركاته الاستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيره
حتى لقى مَجْدِىَّ بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحدًا
أنكره إلا إني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن
لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما،
ففته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره
سريعًا، وضرب وجهها محولًا اتجاهها نحو الساحل غربًا، تاركًا الطريق
الرئيسى الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة
جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة.
هَمّ الجيش المكي بالرجوع، ووقوع الانشقاق فيه
و
لما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في
كبرياء وغطرسة قائلًا: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا،
فننحر الجَزُور، ونطعم الطعام، و نسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع
بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يـزالون يهابوننا أبدًا.
و لكن على
رغم أبي جهل ـ أشار الأخْنَس بن شَرِيق بالرجوع فعصوه،فرجع هو وبنو
زُهْرَة ـ وكان حليفًا لهم، ورئيسًا عليهم في هذا النفير ـ فلم يشهد بدرًا
زهرى واحد، وكانوا حوالى ثلاثمائة رجل،واغتبطت بنو زهرة بَعْدُ برأي
الأخنس بن شريق، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا.
وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
فسار
جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة ـ وهو يقصد بدرًا ـ فواصل
سيره حتى نزل قريبًا من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادى
بدر.
موقف الجيش الإسلامي في ضيق وحرج
أما
استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو
لا يزال في الطريق بوادي ذَفِرَان ـ خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد
التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال لاجتناب اللقاء الدامي، وأنه لا بد
من إقدام يبني على الشجاعة والبسالة، والجراءة، والجسارة، فمما لا شك فيه
أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيمًا لمكانة قريش
العسكرية، وامتدادًا لسلطانها السياسي، وإضعافًا لكلمة المسلمين وتوهينًا
لها،بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسدًا لا روح فيه، ويجرؤ على
الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة.
ثم هل هناك
ضمان للمسلمين بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة، حتى ينقل
المعركة إلى أسوارها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم؟ كلا! فلو حدث من
جيش المدينة نكول ما، لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم.
المجلس الاستشاري
و
نظرًا إلى هذا التطور الخطير المفاجيء عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم
مجلسًا عسكريًا استشاريًا أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيه
الرأي مع عامة جيشه وقادته. وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس،وخافوا
اللقاء الدامى،وهم الذين قال الله فيهم: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ
مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا
يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:5، 6]،
وأمــا قادة الجيش فقـام أبو بكر الصديق فقال وأحسن،ثم قام عمر بن الخطاب
فقال وأحسن،ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك
الله،فنحن معك،والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
[المائدة:24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي
بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى
تبلغه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له به.
وهؤلاء
القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار؛ لأنهم كانوا يمثلون أغلبية
الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن
تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة:
(أشيروا علىّ أيها الناس) وإنما يريد الأنصار، وفطن إلى ذلك قائد
الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ.
فقال: والله، ولكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال: (أجل).
قال:
فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك
عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي
بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل
واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدَّق في
اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تَقَرَّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة
الله.
وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها ألا تنصرك إلا في
ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصِلْ حَبْل
من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما
أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك،
فهو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غِمْدان لنسيرن معك، ووالله لئن
استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.
فَسُرَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: (سيروا وأبشروا، فإن
الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكإني الآن أنظر إلى مصارع
القوم).
الجيش الإسلامي يواصل سيره
ثم
ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَفِرَان، فسلك على ثنايا يقال
لها: الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدَّبَّة، وترك
الحَنَّان بيمين ـ وهو كَثِيب عظيم كالجبل ـ ثم نزل قريبًا من بدر.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف
و
هناك قام صلى الله عليه وسلم بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار
أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما
بشيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد
وأصحابه ـ سأل عن الجيشين زيادة في التكتم ـ ولكن الشيخ قال: لا أخبركما
حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا أخبرتنا أخبرناك)، قال: أو ذاك بذاك؟ قال: (نعم).
قال
الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق
الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش المدينة.
وبلغنى أن قريشًا خرجوا يوم كذا و كذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم
بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش مكة.
و لما فرغ من خبره
قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من
ماء)، ثم انصرف عنه، وبقى الشيخ يتفوه: ما من ماء؟ أمن ماء
العراق؟
الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي
و
في مساء ذلك اليوم بعث صلى الله عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عن
أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين؛ على بن أبي طالب
والزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر
فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض، وجاءوا بهما إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا: نحن
سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم، ورجوا أن يكونا لأبي
سفيان ـ لاتزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة ـ فضربوهما
ضربًا موجعًا حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان فتركوهما.
و
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مـن الصلاة قال لهم كالعاتب:
(إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما
لقريش).
ثم خاطب الغلامين قائلًا: (أخبرإني عن قريش)،
قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: (كم
القوم؟) قالا: كثير. قال: (ما عدتهم؟) قالا: لا ندرى،
قال: (كم ينحرون كل يوم؟) قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القوم فيما بين التسعمائة إلى
الألف)، ثم قال لهما: (فمن فيهم من أشراف قريش؟) قالا: عتبة
وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتَرىّ بن هشام، وحكيم بن حِـزام، ونَوْفَل
بن خويلد، والحارث بن عامر، وطُعَيْمَة بن عدى، والنضر بن الحارث،
وَزمْعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميــة بن خلف في رجال سمياهم.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).
نزول المطر
و
أنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرًا واحدًا، فكان على المشركين وابلًا
شديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس
الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل،
وربط به على قلوبهم.
الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية
و
تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر،
ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا
قام الحُبَاب بن المنذر كخبير عسكرى وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا
المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو
الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة).
قال:
يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم
ـ قريش ـ فننزله ونغوّر ـ أي نُخَرِّب ـ ما وراءه من القُلُب، ثم نبني
عليه حوضًا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أشرت بالرأي).
فنهض رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر
الليل، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب.
مقر القيادة
وبعد
أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يبني المسلمون مقرًا لقيادته؛ استعدادًا للطوارئ، وتقديرًا
للهزيمة قبل النصر، حيث قال:
يا نبى الله، ألا نبني لك عريشًا تكون
فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا
كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بِمَنْ وراءنا
من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو
ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون
معك.
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له
بخير، وبني المسلمون عَرِيشًا على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقى لميدان
القتال، ويشرف على ساحة المعركة.
كما تم اختيار فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته.
تعبئة الجيش وقضاء الليل
ثم
عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه. ومشى في موضع المعركة، وجعل
يشير بيده: (هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن
شاء الله). ثم بات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة
هنالك، وبات المسلمون ليلهم هادئي الأنفاس منيري الآفاق، غمرت الثقة
قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم؛ يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم
صباحًا: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ
رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
كانت هذه الليلة ليلة
الجمعة، السابعة عشرة من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه
صلى الله عليه وسلم في 8 أو12 من نفس الشهر.
الجيش المكي في عرصة القتال، ووقوع الانشقاق فيه
أما
قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت في
كتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر. وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: [دعوهم]، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا
قتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان
إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.
فلما
اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الجُمَحِى للتعرف على مدى قوة جيش
المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل،
يزيدون قليلًا أو ينقصون، و لكن أمهلونى حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟
فضرب
في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئًا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئًا،
ولكنى قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت
الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل
منهم حتى يقتل رجلًا منكم،فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد
ذلك؟ فروا رأيكم.
و حينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل ـ المصمم
على المعركة ـ تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم
بن حزام في الناس، وأتى عتبة ابن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير
قريش وسيدها، والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟
قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن
الحضرمى ـ المقتول في سرية نخلة ـ فقال عتبة: قد فعلت. أنت ضامن علىّ
بذلك. إنما هو حليفي، فعلى عقله [ديته] وما أصيب من ماله.
ثم قال عتبة لحكيم بن حزام: فائت ابن الحَنْظَلِيَّةِ ـ أبا جهل، والحنظلية أمه ـ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره.
ثم
قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن
تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لايزال الرجل ينظر في وجه
رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته،
فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن
كان غير ذلك ألْفَاكُمْ ولم تَعَرَّضُوا منه ما تريدون.
و انطلق
حكيم بن حزام إلى أبي جهل ـ وهو يهيئ درعًا له ـ قال: يا أبا الحكم، إن
عتبة أرسلنى بكذا وكذا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سَحْرُهُ حين رأي
محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما
بعتبة ما قال، ولكنه قد رأي أن محمدًا وأصحابه أكلة جَزُور، وفيهم ابنه ـ
وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديمًا وهاجر ـ فَتَخَوَّفَكُمْ
عليه.
و لما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال
عتبة: سيعلم مُصَفِّر اسْتَه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ وتعجل أبو
جهل، مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن
الحضرمى ـ أخي عمرو بن الحضرمى المقتول في سرية عبد الله بن جحش ـ فقال:
هذا حليفك [أي عتبة] يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم
فانْشُد خُفْرَتَك ، ومَقْتَلَ أخيك، فقام عامر فكشف عن استه، وصرخ:
واعمراه، واعمراه، فحمى القوم، وحَقِبَ أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه
من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. وهكذا تغلب الطيش
على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى.
الجيشان يتراآن
ولما
طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائها وفَخْرها تُحَادُّك وتكذب رسولك،
اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحْنِهُم [الغداة]) وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ـ ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له
أحمر: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن
يطيعوه يَرْشُدُوا).
و عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف
المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يديه قِدْح يعدل به،
وكان سَوَاد بن غَزِيَّة مُسْتَنْصِلًا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح،
وقال: (استو يا سواد)، فقال سواد: يا رسول الله، أوجعتنى فأقدنى،
فكشف عن بطنه وقال: (استقد)، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال:
(ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: يا رسول الله، قد حضر ما ترى،
فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك. فدعا له رسول الله صلى
الله عليه وسلم بخير.
و لما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه
بألا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه
خـاص في أمـر الحـرب، فقال: (إذا أكثبوكم ـ يعنى اقتربوا منكم ـ
فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم) ثم رجع إلى
العريش هو وأبو بكر خاصة،وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب
العريش.
أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال:
اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لانعرفه،فأحِنْه الغداة،اللهم أينا كان
أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله: {
إِن
تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ
خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ
فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]
ساعة الصفر وأول وقود المعركة
وكان
أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومى ـ وكان رجلًا شرسًا سيئ
الخلق ـ خرج قائلًا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن
دونه. فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فلما التقيا
ضربه حمزة فأطَنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله
دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه،
ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
المبـــارزة
و
كان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش
كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة،
فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار
عَوْف ومُعَوِّذ ابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد الله بن رواحة،
فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكِِفَّاء
كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد،
أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على)، فلما قاموا ودنوا
منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز
عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على
الوليد. فأما حمزة وعلى فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة
فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كَرَّ على
وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا حتى
مات بالصفراء،بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في
طريقهم إلى المدينة. وكان على يقسم بالله أن هذه الآية نــزلت فيهم:
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية
[الحج:19].
الهجوم العام
و
كانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلاثة من
خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة،فاستشاطوا غضبًا،وكروا على المسلمين كرة
رجل واحد.
و أما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا
له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتتالية، وهم مرابطون في مواقعهم،
واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون:
أحَد أحَد.
الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه
أما
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه
ما وعده من النصر، ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك
عهدك ووعدك)، حتى إذا حَمِىَ الوَطِيسُ، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم
القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال: (اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم
لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا). وبالغ في الابتهال
حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله،
ألححت على ربك.
وأوحى الله إلى ملائكته: {أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ الرَّعْبَ} [الأنفال: 12]،وأوحى إلى رسوله: {أَنِّي
مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}
[الأنفال:9] ـ أي إنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا، لا
يأتون دفعة واحدة.
نزول الملائكة
وأغفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: (أبشر
يا أبا بكر، هذا جبريل على ثَنَاياه النَّقْعُ) [أي الغبار] وفي
رواية ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبشر يا أبا
بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، وعلى ثناياه
النقع).
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو
يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
[القمر:45] ،ثم أخذ حَفْنَةً من الحَصْبَاء، فاستقبل بها قريشًا
وقال: (شاهت الوجوه) ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد
إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَى}
[الأنفال:17].
الهجوم المضاد
وحينئذ
أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال: (شدوا)،
وحرضهم على القتال، قائلًا: (والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم
رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة)، وقال
وهو يحضهم على القتال: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)،
[وحينئذ] قال عُمَيْر بن الحُمَام: بَخْ بَخْ. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك: بخ بخ؟) قال: لا، والله
يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: (فإنك من أهلها).
فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل
تمراتى هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى
قتل.
وكذلك سأله عوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ فقال: يا رسول
الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: (غَمْسُه يده في العَدُوّ
حاسرًا)، فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى
قتل.
وحين أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم
المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة
أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم ـ
وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه ـ قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون
الصفوف، ويقطعون الأعناق. وزادهم نشاطًا وحدة أن رأوا رسول الله صلى
الله علي